شاء القدر أن يكون المسلسل الرمضاني الحدث هذه السنة يتناول سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. عمر الفاروق الذي فرّق الله به بين الحق والباطل… عمر الذي قال فيه ابن مسعود “مازلنا أذلة حتى أسلم عمر”… عمر الذي بنى حضارةً وضع أسسها الرسول صلى الله عليه وسلم وارتفع بأعمدتها أبو بكر الصديق… عمر الذي سمع بطنه تتضور من الجوع عام الرمادة فقال لها “قرقري أو لا تقرقري والله لن تشبعي حتى يشبع أطفال المسلمين”… عمر القائل “فعلام نعطى الدنيّة في ديننا”…
أستحضر عبقرية عمر فتعود بي الذاكرة إلى الفترة التي كنت فيها مع الكثير من أبناء جيلي نهرب من واقعنا المر الذي ضُيّق فيه على المسلمين وغاب الإسلام عن الحياة اليومية واستبد الحكام فأكثروا الظلم والفساد، لنقضي الساعات في قراءة كتب السّيَر ونحلم بيوم يُؤْتي فيه الله الأمر لأناس يخافونه فينا ويعضون بالنواذج على سنّة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الرّاشدين. وقامت الثورة لتفكّ قيود المسجونين وتعيد المنفيين فهبّ أصحاب الهمم لتحقيق المشروع الذي حلمنا به عشرات السنين وإقترب أكثر بعد أن ابتلانا المعزّ المذلّ بالتمكين.
يشهد الله أننا كنا نضع مقولة جعفر بن محمد “إلتمس لأخيك سبعين عذراً” نصب أعيننا قبل أن ننتقد أي قرار يتخذه ولاة أمورنا. فعندما أعلنوا عن حكومة تتكون من كتيبة من الوزراء والمستشارين قلنا إن الأمر عظيم والتركة ثقيلة فلابد من عين على كل جهاز في الدولة لتنظر ماذا فعل المفسدون وتعدّ للإصلاح وإعادة البناء… ولمّا تمّ الإبقاء على البعض من الدّساترة التجمّعيين غاضنا ذلك ولكن قلنا إن لكل قفل مفتاحاً ودولة نخرها الفساد ستين سنة لا سبيل لتطهيرها منه إلا بالإستعانة بالبعض من المؤلّفة قلوبهم العالمين بالخفايا وخاصّةً بالفخاخ القديمة والحديثة… ولمّا تأخر تطهير المنظومة الأمنية قلنا إن الحذر واجب فليس من السهل التخلص من جلّادي الأمس الذين لم يفقدوا نفوذهم ومن المستحيل القيام بالتغيير الآني لأساليب عمل أعوان درّبوا منذ الإستقلال على أن تطبيق القانون في تطبيق التعليمات وأن هيبة الدولة لا تكون إلا بالقمع والقهر والعنف المادي واللفظي.
في الحقيقة كنّا نعتقد أن ساداتنا يعلمون أنّنا إزاء فترة انتقالية يصعب تحقيق نتائج باهرة فيها فكل ما يمكن أن نرنو إليه هو تقييم الموجود ووضع أسس الإصلاح. غير أن الإمساك بمقاليد الحكم يمنح الفرصة للقيام بأعمال رمزية تُظْهر للناس معدنك وتطمئنهم بأن الأمانة بين أيدٍ أمينة. لذلك هالنا أن نرى نوابنا الأشاوس يتفطنون بعد ستة أشهر من انتخابهم أن السكن في نزل ذي خمس نجوم مكلف فيأذنون لأنفسهم بمنحة سكن بتسع مائة دينار أي قرابة أربعة أضعاف الأجر الأدنى في بلد قامت فيه ثورة من أجل العدالة الإجتماعية! وكأننا لا نستطيع أن نصبر “رمزياً” مدة هذه الفترة الإنتقالية. ولما ضج الناس مستهجنين هذه الفضيحة نسي أحد كبرائنا أن الإعتراف بالخطأ فضيلة ونسي أيضاً أنه كثيراً ما تفاخر بأنه يسكن حياً شعبياً شكلت انتفاضته منعرجاً حاسماً في الثورة فزاد في خيبة أملنا بقوله: “من غير المعقول أن يمتطي “جناب” النائب وسائل النقل العمومية”! نتفهم أن يكون من السهل على وزراء دولة النرويج الصليبية الكافرة التنقل على المترو والحافلة فهي بمثابة سيارات فارهة مقارنةً بنظيراتها الخضراء والصفراء عندنا ولكن ألم يكن من الممكن إستعمال سيارات الأجرة؟ أليس من المهم الإقتراب من المواطنين في هذه الفترة حتى يشعروا أن نوابهم قريبون منهم ومطلعون على مشاكلهم اليومية؟
على العموم كل هذا لا يساوي شيئاً أمام السقطة الكبرى التي اقترفها من كنا نعتبرهم قدوتنا ومثلنا الأعلى! العالم المتقدم يقوده شباب وكهول لا تفوق معدل أعمارهم الخمسين سنة وتتعامل أصابعهم بمهارة مع لوحات المفاتيح والتقنيات الحديثة. أكُتِب علينا أن لا تكون الكفاءة موجودةً إلا عند أحفوريات تكتب “بالبلومة” وتستعمل ألفاظاً من عينة “فهمت الحاصل معناها”؟ أبلغ بنا الأمر أن ننبش في ركام النظام البائد لنستخرج منه من ارتبط إسمه بالمستبد الأول قبل الثاني ولاحقته تهم فساد في بلد إخوةٍ قادرين على إتياننا بالخبر اليقين؟ شخصٌ وُضع أو وَضع (لا فرق طالما لم يعترض حينها) إسمه على قائمات المناشدة. شخصٌ يعترف بكتابة ثلاث صفحات من أربع مائة صفحةٍ تقطر نفاقاً كل حرفٍ فيها هو صفعة على وجوه الشهداء قبل وجوهنا.
ثم إذا تركنا جانباً ارتباطه بالماضي البغيض وناقشنا “كفاءته” أو بالأحرى عقيدته الإقتصادية، هل نجده مختلفاً عن سلفه؟ كنت أعتقد أن السبب في إقالة هذا الأخير لا يقتصر على رفضه العمل بالفصل 34 من القانون المؤسس للبنك المركزي والذي ينص على أن البنك المركزي يشد أزر السياسة الإقتصادية للدولة أو على بقية المآخذ الأخرى وإنما بسبب إيمانه بوجوب الإنصياع لإملاأت صندوق النقد الدولي وغيره من أدوات إستعباد الشعوب. فهل سيعمل المحافظ الجديد على التقليص من المديونية أم أنه سيدفعنا إلى الإنتحار والموت الزؤام عبر تحرير الدينار؟
أعجب من أناسٍ عينوا وجهاً من فترة الإستبداد الدستورية التجمعية بعد أسبوع من مؤتمرهم العام الذي جاء في بيانه الختامي حديثٌ عن القطيعة مع منظومة الإستبداد ومنع عودة رموز التجمع المنحل! ألا يتدبرون قول الله تعالى: “يَا أَيّها الّذِين أمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ الله أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونْ”؟ إن كنتم تظنون أن الأمر إستقر لكم فهيهات هيهات. النظام الأوليغارشي يُجَيّش إعلامه وأزلامه ليطيح بكم. ومن انتخبكم يوم 23 أكتوبر وخاصةً الشباب منهم بدأ يفقد الثقة فيكم. فقد كانوا يعتقدون أنكم أصحاب مبدأ شعاركم الصدق والوفاء ولا تخافون في الله لومة لائم فاحذروا أن يصيبكم قول الله تعالى “ووَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ”.
أختم بسؤال لرئيس الحكومة: عندما تقف كل صباح أمام المرآة وتنظر في عينيك، أتتذكر تلك الكلمات التي كنت ترددها لرفاق النضال في أقسى أيام المحنة: أما زلتم على العهد؟