عند متابعتنا للنقاشات السياسية على القنوات التونسية، نلاحظ أن أغلبية "النخب" أو بالأحرى أغلبية من يستدعون للنقاش تحت شعار الرأي والرأي "هو بيده" يبشرون بقيم التقدم والحداثة التي لا يمكن أن تتحقق إلا في إطار دولة لائكية وبالطبع فقد كفى باعث القناة (سواءاً كان سيد الناس الكل أو إبن أبيه الفار) المواطنين شر الإطلاع على رأي قوى الرجعية وتيارات الجذب إلى الوراء المنادية بدولة إسلامية لا يمكن أن تكون إلا دينية بمعنى ثيوقراطية !
الأمر واضح جداً بالنسبة للائكيين، فالبديل الوحيد عن الدولة العلمانية هي الدولة الدينية التي تحكم بحق إلهي فتلبس الحاكم رداءً دينياً يعصمه من الأخطاء فلا تناقش اختياراته ولا برامجه السياسية. في الحقيقة هذا لا يمت بصلة للدولة المسلمة المؤسسة على منهج القرءان والسنة. فلا وجود لكهنوت إسلامي وبالتالي لا قدسية أو "حصانة" للحاكم ! فهو يخطيء ويصيب ومن حق الأمة محاسبته وحتى عزله.
أما حجتهم المفضلة فهي أن اللائكية هي الضمان الوحيد لإحترام المعتقد وممارسة الشعائر وبالتالي التعايش السلمي بين كل أطياف المجتمع وهذه لا يفوتها سخفاً إلا استشهادهم بالفقيه المالكي والقاضي الشرعي إبن رشد للحث على تبني العلمانية الغربية في البلاد المسلمة ! لو كان الإسلام في سماحة الكونكيستادور، غزاة أمريكا اللاتينية، لما بقيت فرق من الوثنيين والمجوس فضلاً عن اليهود والمسيحيين في أرض الإسلام إلى يوم الناس هذا !
من المضحكات المبكيات أيضاً رؤية أعين اللائكيين تغرورق بالدموع وهم يقولون أن الدين علاقة طاهرة وسامية بين الإنسان وربه لا يجب أن نزج بها في ميدان السياسة المبني على المناورة والغش والخداع. وكأن السياسة لا تكون إلا على المبدأ الماكيافيلي "الغاية تبرر الوسيلة" فلا مكان فيها لمكارم الأخلاق التي تجعل الحاكم لا يخاف في الله لومة لائم فينتصر للمظلوم ويمنع الظالم ويعين الفئات الضعيفة... وهذا يعبر عنه الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله بقوله : {إن خير من استأجرت القوي الأمين} (القصص - 26) وشتان بين هذا النموذج القرءاني وبين من كان مشرفاً على خزائن الدولة في عهد الدكتاتور فأصبح غداة الثورة يذرف دموع التماسيح متألماً من الموقف الدقيق والدقيق جداً الذي تمر به البلاد لينقلب لحظة خروجه من السلطة ثورجياً يطالب بإنتخاب مجلس تأسيسي !
في الحقيقة، الهدف الوحيد من المطالبة باللائكية هو التوصل إلى إقرار القوانين الوضعية بطريقة دستورية وقانونية لا تخدم إلا مصلحة المنافقين ! فعلى طريقة دس السم في الدسم يصور الأمر على أن قمة العدالة والحضارة تكمن في تطبيق نفس القوانين على جميع المواطنين دون إعتبار لجنسهم أو معتقدهم وبالطبع لا حاجة للبحث على نقاط الإتفاق أو مراعاة خصوصيات البعض بل يتم فرض ما كتبوه بأيديهم وسموه قيماً كونية ومطالبة الشعب بالإيمان بها كحقائق نهائية لأن سواها تنتمي لكتاب نحترمه ونعتبره مقدساً ولكن نتركه في البيت ليباركه ويبعد عنه اللصوص ! وهذا يذكرني بتصريح أحد كبارهم الذين علموهم السحر، إعتبر فيه مجلة الأحوال الشخصية الدستور الحقيقي لتونس ثم إستطرد قائلاً أنه "يلزمنا" أربعون سنة أخرى لنرتفع بالشعب التونسي إلى مستوى تلك المجلة !!! عجبي، لم تكفهم ثلاثون سنة من التضليل الثقافي والتربوي أردفوها بعشرين سنة من تجفيف المنابع ويطمعون الأن في تحقيق هذا الهدف مع جيل الثورة !
قبل أن يلتقط أحدهم هذه الكلمات وينطلق إلى مجلس نواح على المكاسب المهددة بالإنقراض أريد أن أذكر بأن نص هذه المجلة ليس أكثر قدسية من القرءان ! ثانياً، أباح الإسلام للمرأة أن تشترط على زوجها أن لا يتزوج عليها وقد اشتهرت مدينة القيروان بعقود الزواج التي تحتوي على هذا الشرط فعرف بين الناس بالصداق القيرواني. ثالثاً، إن هذا يظهر أن الدولة المسلمة أكثر مرونة وإحتراماً لحرية مواطنيها، فالشريعة الإسلامية لا تطبق إلا على المسلمين. أما أهل الكتاب فمن حقهم الإحتكام لكتبهم إن كانوا لا يزالون يؤمنون بما فيها. وبالطبع هذا لا يرضي العلمانيين فهم يفهمون الأية الكريمة {لا إكراه في الدين} (البقرة - 254) بأنهم من حقهم أن يسلموا ثم لا يعملوا إلا بما تهوى أنفسهم بل ويجتهدون في منع تطبيق الشرع على كامل المجتمع عملاً بالمثل "الشنقة مع الجماعة خلاعة" وهذا المفهوم المستورد من أسيادهم في الغرب أعني "المؤمن الغير مطبق" ينافي التعريف الإسلامي للإيمان بأنه ما وقر في القلب وأقر به اللسان وصدقه العمل ! بل إن الله تعالى وصف المنافقين بمن لا يذكرون الله إلا قليلا ولا يأتون الصلاة إلا كسالى فما بالك بمن لم يسجد لله سجدة ولا هدف عنده إلا الصد عن سبيله ؟ من جهة أخرى، فإن حث الإسلام على الإجتهاد وتحكيم العقل لا يعني أن يترك ذلك بين أيدي كل من هب ودب وإلا فما هي وظيفة المفتي ؟ رصد الهلال ؟ إن الإجتهاد له قواعده التي تمكننا من التعامل مع النصوص وتسمح إذا اقتضت المصلحة بتعطيل العمل "مؤقتاً" ببعض الحدود (التي يرتعدون منها ويختزلون الشريعة فيها) ولنا في عمل الفاروق عمر في عام الرمادة أسوة حسنة !
ختاماً، أمنيتي أن يقرأ كل من يعتبر نفسه مسلماً علمانياً هذه الأيات من سورة المائدة، ويفسر لي سبب تكرار بعض الأجزاء منها :
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور، يحكم بها النبيئون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما أستحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء، فلا تخشوا الناس واخشوني ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (46) وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (47) وقفينا على آثارهم بعيسى إبن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة، وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين (48) وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (49) وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق، لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم، فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (50) وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، وإن كثيرا من الناس لفاسقون (51) أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون (52)