عند ذكر إسم بورڤيبة تعود بي الذاكرة إلى أيام الطفولة فتتدافع المشاهد في ذهني.. لم أستطع نسيان صورة رؤوف يعيش رافعاً خبزةً بيمينه ومردداً شعارات تمجد المجاهد الأكبر.. رؤوف يعيش نفسه، الذي سمى ابنته توجيهات على إسم ذلك البرنامج الذي يقدم قبل نشرة الثامنة مساءً مقتطفات من خطابات الرئيس.. غالباً ما كانت تتسبب في تعليقات ساخرة من أبي أو نظرات متهكمة من أمي.. لكن أحياناً قليلة، كانت أمي تترك كل ما كان يشغلها وتسارع لتقف أمام التلفاز لتتابع بأعين ملتمعة، صور الخطيب المفوه وهو يلوح بيديه في الهواء ! كنت أتسائل في صمت كيف يمكن لهذا الشخص أن يثير كل هذه المشاعر المتناقضة ؟ لماذا أشعر بالهيبة عندما أمر بجوار التمثال الذي يصوره راكباً حصاناً وطربوش تركي فوق رأسه وأنفجر ضاحكاً عندما أشاهده يسبح كالضفدع وحذاؤه الرياضي الأبيض في ساقيه ؟
في الحقيقة لا يمكنني تقديم تقييم موضوعي للحقبة البورڤيبية فالتاريخ الرسمي كتب بيديه والشهادات المحايدة نادرة ولكن من وجهة نظري أعتبر أن من أهم إنجازاته تأسيس دولة ما بعد الإستقلال. أقول دولة لا جمهورية !!! وكان من أهم ميزات هذه الدولة القضاء على النعرات القبلية والعروشية، النهوض بالقطاع الصحي وتبني سياسة التنظيم العائلي، إجبارية التعليم مع مجانيته... هذه السياسة حققت ثورة كبيرة مكنت كل تونسي مهما كان منشؤه متواضعاً من القدرة على إرتقاء السلم الإجتماعي ومكنت البلاد من التمتع بطبقة وسطى عريضة ومثقفة "نسبياً". لا يمكن أن ننسى طبعاً مجلة الأحوال الشخصية والدور الذي لعبته في ادماج المرأة التونسية في الدورة الإقتصادية وبالتالي تغيير تركيبة المجتمع جذرياً.
من جهة أخرى لا يمكن أن نغض الطرف على خطايا بورڤيبة في حق تونس ومن أبرزها :
- تنكره لرفيق دربه صالح بن يوسف الذي عامله معاملة بروتس لقيصر وتصفيته لكل معارضيه من اليوسفيين.
- إختزال كل تاريخ الحركة الوطنية في شخصه وحزبه وتقديم نفسه على أنه المجاهد الأكبر الذي أجبر فرنسا على القبول بإستقلال تونس : كم هي نسبة التونسيين الذين يعرفون أن المؤسس الحقيقي للحزب الدستوري الحر (الذي إنشق عنه بورقيبة وصحبه) هو الشيخ عبدالعزيز الثعالبي ؟ كم هي نسبة التونسيين الذين يعرفون الدور الهام الذي لعبه الزيتونيون في مقاومة الإحتلال ؟
- قبوله نظرياً (أي دستورياً) بالإسلام ديناً للدولة وبالعربية لغةً لها وانتهاجه لسياسات مخالفة تماماً : إلغاء المحاكم الشرعية، الإستيلاء على الأوقاف، إغلاق المعاهد الزيتونية، تهميش الثقافة العربية والإسلامية...
- تطبيق سياسة الحزب الواحد وتأسيس الحكم البوليسي الدكتاتوري، التضيق على الحريات، إعتقال وتعذيب المعارضين...
- إنتهاج سياسة إقتصادية كارثية في الستينات
أخيراً، على طريقة قناة سيد الناس الكل، أعتبر أن الموقفين التاليين يلخصان ما تمثله شخصية بورڤيبة بالنسبة لي :
1- نشر المحامي الشابّ الحبيب بورڤيبة في 11 من يناير 1929 بجريدة "اللّواء التونسيّ" الناطقة بالفرنسيّة مقالاً بعنوان "الحجاب" مندّدا بما دعت إليه على منبر جمعيّة الترقّي بالعاصمة التونسيّة حبيبة المنشاوي التي حملت على الحجاب ودعت إلى سفور المرأة التونسيّة وممّا جاء فيه قوله: "إن الحجاب دخل منذ قرون في تقاليدنا وأصبح جزءا لا يتجزّأ من ذاتيّتنا ومظهرا يميّزها عن ذاتيّات أخرى" وحمل على السفور قائلاً: "إنّ ليلة الحجاب انتهت بفشل دعاة السفور ومدبّري محو الذاتيّة التونسيّة، وهل أدلّ على ذلك من امتناع السيّدات المسلمات اللاّئي حضرن في تلك الليلة عن إلقاء خُمُرهنّ في سلّة القاذورات، فكان موقفهنّ أحسن برهان على وجود الشخصية التونسية"
2- أصدر الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة سنة 1981 المنشور عدد 108 الذي يحظر على الطالبات والمدرّسات وموظفات القطاع العام ارتداء "الزيّ الطائفي" أي الحجاب داخل المؤسسات التابعة للدولة : المدارس والجامعات والمستشفيات والإدارات العمومية...
وبين هذا وذاك الأغنية التي إنتشرت في الستينات : "نحي السفساري يا بنية"
هناك تعليق واحد:
Encore une fois très très intéressant, baraka Allahou fik ! j'apprends !
إرسال تعليق