بدأ كل شيء بحرقة أحس بها قلب شابٍ مظلوم فأشعلت جسده وأرض الخضراء من بعده ليطول لهيبها أيدي العصابة المسيطرة على البلاد. لم تكن حالة فردية أو معزولة.. سبقتها حادثة الشاب الذي أحرق نفسه أمام قصر الطاغية بقرطاج ومأساة عبد السلام تريمش صاحب عربة البريك التي كانت مورد رزق طفليه. ما الجديد إذن هذه المرة ؟ لماذا لم تتمكن عصا البطش من إخماد الإنتفاضة ؟ لماذا عجز صاحب النظرة الإستشرافية عن التنبؤ بتحول حركة إحتجاجية إلى ثورة تطرده ذليلاً شريداً ؟
الإجابة التي يريد ونيس وزملاؤه أن نغفل عنها هي أن المطلب الحقيقي للثورة هو إستعادة الشعب لحقه في تنصيب الدولة التي تعبر عنه.. الدولة كنظام ومؤسسات تظمن له حقه في العمل الشريف والأمن على ماله وعرضه والعيش بحرية وكرامة. المعتصمون بالقصبة أصروا على هذا المبدأ ورابطوا أمام الوزارة الأولى رغم كل أساليب الترهيب والترغيب التي أستعملت معهم. وهذا منطقي، لأنها لو كانت ثورة رعاع جياع (ڤعار) لما تسببت في كل هذا الزخم الذي إكتسح الشبكات الإجتماعية ودفع الألاف للتظاهر في المدن الكبرى كصفاقس وتونس !
عندما أشاهد التقارير التلفزية التي تنقل لنا إعتصامات مواطنين يطالبون الحكومة الإنتقالية بالزيادة في الأجور أو الترسيم أو التشغيل ينتابني مزيج من الإحباط والغضب ! فرغم شرعية هذه المطالب إلا أن مهمة هذه الحكومة المؤقتة لا تتمثل في حل مشاكل التنمية وتحقيق العدالة الإجتماعية بل في تأمين إنتقال ديمقراطي للسلطة أي تنظيم إنتخابات تؤدي إلى تكوين مجلس تأسيسي يمتلك الشرعية الشعبية التي تخول له كتابة دستور جديد للبلاد وتكوين لجان الإصلاح السياسي والتحقيق حول الفساد... ليتمكن الشعب التونسي بعد ذلك، ولأول مرة في تاريخه، من إنتخاب حكومة تمثل تركيبته الحقيقية !
وهنا أعود للمومياء الحية ونيس الذي لم أخرج من سفسطته ليلة الأحد على قناة نسمة إلا بفكرة واحدة : إنه يصر على أن الثورة بدأت يوم الإستقلال عن فرنسا ! لقد تلفظ بما يخفيه زملاؤه في صدورهم. إنهم لا يريدون الإعتراف بثورة الشعب لأن كلمة ثورة تتطلب قطعاً كاملاً مع النظام البائد في حين أنهم يريدون إستمرار الدولة البورقيبية بتصورها الخاص للجمهورية "الديمقراطية" ومشروعها الثقافي التغريبي المنسلخ عن الهوية الحقيقية للشعب التونسي !
هذه الحكومة تتشبث بفصول الدستور التي تمكنها من الوصول إلى مآربها وتتجاهل تلك التي تقيد حركتها ! فالرئيس المؤقت لا يمكن أن تتجاوز مدته 60 يوماً هاقد عشنا نصفها دون أن نرى تقدماً في الإعداد للإنتخابات الرئاسية بينما السادة الأشاوس يتكلمون عن فترة إنتقالية قد تستمر لستة أو سبعة أشهر ويصل بهم الغرور لبحث إمكانية التوقيع على برتوكول يلغي عقوبة الإعدام كأنهم مخولون لفعل ذلك !
في هذه الأثناء يختار عياض بن عاشور أعضاء لجنة الإصلاح السياسي من كلية العلوم السياسية والقانونية ومن القانونين ذوي الميول الفرنكوفيلية المفضوحة ! بل يسمح لنفسه بإطلاق تصريحات وقحة من عينة : مجلة الأحوال الشخصية هي الدستور الحقيقي للبلاد أو علينا أن نرتقي بالشعب التونسي لمستوى مجلة الأحوال الشخصية ! لم تكفه 60 سنة من الحرب على هويتنا بل يريد 40 سنة أخرى (بنص عبارته) لعله يحقق مبتغاه !
سرق الإستقلال منا عندما إستمرت التبعية الثقافية والإقتصادية للمستخرب السابق رغم تعدد البدائل والإختلافات الحضارية البديهية ! كيف نفسر عدم تمكن الشركة التونسية لصناعة السيارات التي تأسست سنة 1961 من إنتاج سيارة تونسية 100% في حين تمكنت شركة بروتون الماليزية من ذلك بعد أقل من 20 سنة من بعثها ؟ كيف يمكن أن نجد إلى الأن إستمارات بالفرنسية فقط في العديد من الإدارات التونسية ؟ هل من الطبيعي أن لا يخط طلبة الإختصاصات العلمية حرفاً واحداً بالعربية طيلة دراستهم الجامعية ؟ يكفي أن تتابع الحملات الإشهارية أو برامج الحوار في إعلامنا البائس أو حتى المدونات التونسية لتكتشف أن الفرنسية هي عنوان التفاخر والحداثة والعربية رمز التخلف والتڤوعير !
إننا نعيش لحظة فارقة، يتوجب علينا أن نناضل فيها لتسترد تونس هويتها الحقيقية فالبند الأول من الدستور الذي يريد عياض بن عاشور أن يتكرم علينا بعدم المساس به يجب أن يترجم على أرض الواقع من خلال السياسات الإقتصادية والثقافية والتربوية والحقوقية ولا يبقى مجرد شعار تدغدغ به مشاعرنا وتتصرف الدولة بطريقة تجعل الحمقى من أمثال جمعية الدفاع عن اللائكية يظنون أن تونس كانت يوماً كذلك !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق