روى لي أحد أصدقائي الأطباء أنه أثناء فترة تدريبه عرضت عليهم حالة غريبة لإمرأة من الجريد أظهرت التحاليل أنها مصابة بتشمع كبدي (أو تليّف كبدي) ولكن عندما سألها الطبيب المقيم إن كانت مدمنة على الخمر احمر وجهها غضباً وخجلاً وصاحت في وجهه نافية ذلك. لحسن الحظ كان هناك طبيب شاب من جهتها علم بالقصة فعاد إليها سائلاً : قل لي يا حاجة، تشرب برشة لاڤمي(*) ؟
المغزى من هذه الحادثة الطريفة يتمثل طبعاً في القاعدة الشهيرة : "العبرة بالمسمّى لا بالإسم" ولكن يُحيلنا أيضاً إلى حديث الساعة ألا وهو قرار الهيئة التأسيسية لحركة النهضة بعدم التنصيص على الشريعة في الدستور المقبل إذ تبيّن من التصريحات التي رافقت هذا القرار أن الشريعة مطبّقة في تونس حتى بعد الإستقلال ولكن الشعب "آخر" من يعلم !!!
المفارقة تتمثل في أن نسبة كبيرة من قواعد الحركة إلى جانب السلفيين كانت في الأساببع الفارطة تتظاهر مطالبةً باعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً أساسياً (ووحيداً لدى بعضهم) للتشريع وتعتبر ذلك انتقاماً من العَلْمَنَة القسرية (بمعنى السياسات المعادية للتديّن) التي عرفتها البلاد منذ الإستقلال. ومن جهة أخرى فإن أنصار "الحداثة والتقدمية" الذين تظاهروا غداة هروب المخلوع رافعين شعار "تونس ليك تونس ليّا تونس دولة لائكيّة" وطالبوا بدستور يحافظ على الطابع العلماني الذي عرفته "الجمهورية البورڤيبنعلية" أصبحوا يؤكّدون بعد الخيبة الكبيرة التي منوا بها في انتخابات 23 أكتوبر، على أن 90% من القوانين التونسية مطابقة للشريعة وحتى من كان يدعو لمحو أي ذكر للإسلام في الدستور الجديد أضحى متمسكاً بالفصل الأول من دستور 1959.
لنستطيع فهم ضبابية هذه المواقف لابد أن نرجع إلى الظروف التي صيغ فيها هذا الفصل. وأقصر طريق لذلك هي الشهادة التي أدلى بها السيد مصطفى الفيلالي الوزير السابق لبورڤيبة وعضو المجلس القومي التأسيسي وفيه صرح بأنه وقع اختلاف كبير حول مسألة تحديد الهوية بين الشق الزيتوني (الذي تزعمه الشيخ النيفر) المطالب بأن يكون الفصل الأول من الدستور متضمنا "تونس دولة إسلامية عربية" وبين الشق الحداثي الذي إعتبر هذا "إنحيازاً لا طائل منه" فتدخل بورڤيبة وحسم الأمر مقترحاً صيغةً "حمّالة أوجه" : تونس حرّة مستقلة الإسلام دينها والعربية لغتها فوافق "الزّواتنة" (الذين فهموها على أنّ مرجعيّة الدّولة الأخلاقية والقانونية ستكون الإسلام) والحداثيون (الذين فهموها على أن الإسلام هو دين أغلبية المواطنين). وللأسف الشديد فقد أثبتت السياسات التي انتهجتها "الجملوكية" في سنوات حكمها الأولى أنّ هذا الفصل (بفهميه الإثنين) بقي حبراً على ورق فأي دولةٍ هذه التي تكون مرجعيتها أو دين مواطنيها الإسلام ثم تقوم بالقضاء على التعليم الدّيني فيه وتفرغه من محتواه ثم بتجفيف منابعه ومحاربة الملتزمين بشعائره في مرحلة ثانية ؟! وأي دولةٍ هذه التي تقوم بتهميش لغتها الوطنية لتعتمد على لغة المستخرب لتدريس المواد العلمية التي ستقوم عليها نهضتها ؟!
في الحقيقة أثبتت الهيئة التأسيسية لحركة النهضة باتخاذها هذا القرار الصعب والمفاجئ في توقيت حساس وتحت ضغط أنصارها أنها تتمتع ببراغمتية وحنكة سياسية طالما اتهمت بافتقادها. فإن كانت كلمة شريعة مرادفة للحدود "القاسية والبربرية" في نظر الشركاء الأجانب ورواد الحداثة والتقدمية وغامضة وغير مفهومة من قبل التونسي "العيّاش" الذي يريد فقط أن يعيش في سلام ويجد الطعام عند جوعه والعلاج عند مرضه فليكن الدواء بالتي كانت هي الداء ! ما المانع من إبقاء الفصل الأول ثم العمل به بفهم "الأغلبية الحاكمة" ؟ فإن عُرض على السلطة التشريعية نصٌ يتعارض مع الشريعة (قانون، إتفاقية دولية...) فستصوّت ضده وإن كان هناك قوانين في حاجة إلى المراجعة "على ضوء الشريعة" فسيتم ذلك ولو باستعمال "سياسة المراحل"..
طبعاً كان الأمر سيكون أفضل و"أضمن" لو كانت هناك محكمة دستورية مكوّنة من قضاة شرعيين تقوم بالنظر في "دستورية" القوانين ومدى مطابقتها لمقاصد الشريعة ولاجتهادات "علماء" البلاد ولكن ما الحل في بلد ابتلي "بنخبة" لا تزال تصر على "التحديث" الفوقي والقسري رغم ستّين سنة من الفشل ؟!
المشكل الأساسي إذاً يتمثل في تعريف مصطلح الشريعة وتقريب مفهومه لعامة الشعب وخاصته. فمن الإنتقادات التي وجهها أساتذة جامعيون من "نخبتنا" لفكرة تضمين الشريعة، قولهم: إن الأمة الإسلامية افترقت على مذاهب عديدة في فهم الشريعة فبأيها نأخذ ؟ وفي هذا خلط بين الشريعة التي هي الثابت الذي لا يتغير مما كان قطعي الدلالة في القرءان والسنة أو مما أجمع عليه العلماء وبين الفقه الذي يتمثّل في نتاج ما يقوم به العلماء من إجتهاد وتأويل وقياسٍ وتحكيم للرأي... ولا أجد أبلغ من قول إبن تيمية الذي أجمل كل هذا التفصيل في قوله "حيثما وُجدت المصلحة فثَمَّةَ شرع الله"
ختاماً، أعتقد أن حركة النهضة اختارت الصبر والعمل على المدى الطويل فأولياتها وأهدافها كانت واضحة : إثبات أنها حركة مجدّدة مع المحافظة على الحد الأدنى من مطالبها ثم العمل على تغيير الواقع المعيشي والثقافي بما يطابق مشروعها الفكري أما معارضوها فينطبق عليهم المثل القائل "إن لم تكن للسفينة وجهة محدّدة فكل الرياح ملائمة"
* نسغ النخلة الذي يتخمّر سريعاً إن لم يتم حفظه في مكان بارد